فصل: الفوائد:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.[سورة الحج: الآيات 71- 74]:

{وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطانًا وما لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ وما لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ (71) وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنْكَرَ يَكادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آياتِنا قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذلِكُمُ النَّارُ وَعَدَهَا اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (72) يا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبابُ شَيْئًا لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ (73) ما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (74)}.

.اللغة:

{يَسْطُونَ}: يبطشون والسطو الوثب والبطش ولذلك عدي بالباء وإلا فهو يتعدى بعلى يقال سطا عليه وأصله القهر والغلبة وفي الأساس: وسطا بقرنه وعلى قرنه وثب عليه وبطش به، والفحل يسطو على طروقته ومن المجاز: سطا الماء كثر وزخر، وما سطوت في طعام أحد: ما تناولته ولهم أيد سواط عواط قال المتنخّل يصف خمرا:
ركود في الإناء لها حميّا ** تلذّ بأخذها الأيدي السواطي

وللسين مع الطاء فاء وعينا للكلمة صفة الامتداد، تقول رأيتهم قاعدين على المساطب وهي الدكاكين الممتدة حول رحبة المسجد وبات فلان على المسطبة وتقول: كم أبات هذا البيت رجالا على المساطب، وأوقعهم في المتالف والمعاطب تريد فسر في بلاد اللّه، وتقول: إما أن يبيتك على المسطبة، أو يرفعك إلى المسطبة وهي المجرّة، وسطح الشيء: بسطه وسواه ومنه سطح الخبز بالمسطح وهو المحور وسطح الثريدة في الصحفة ومنه سطح البيت وسطح مسطح: مستو وأنف مسطح منبسط جدا وبسط لنا المسطح والمساطح وهو الحصير من الخوص وضربه فسطحه إذا بطحه على قفاه ممتدا فانسطح وهو سطيح ومنسطح وبه سمي سطيح وضربه بالمسطح وهو عمود الخباء وشرب من السطيحة وهي المزادة، وسطر واستطر كتب وكتب سطرا من كتابه وسطرا وأسطرا وسطورا وأسطارا وهو مسيطر علينا ومتسيطر، ونار ساطعة ممتدة ونور ساطع وسطع الفجر وسطع الغبار سطوعا وسطع البعير والظليم مدّ عنقه إلى السماء قال ذو الرمة يصف ظليما:
يظلّ مختضعا طورا فتنكره ** حينا ويسطع أحيانا فينتسب

وسطع بيديه رفعهما مصفقا بهما ومن المجاز سطعت رائحة المسك وأعجبني سطوع رائحته، واغتسلت بالسّطل والسّيطل وهما القدس الذي يتطهر به في الحمّام، وحرك النار بالاسطام وسيف مصقول السّطام وهو الحدّ وأنشد سيبويه لكعب بن جعيل:
وأبيض مصقول السطام مهنّدا ** وذا حلق من نسج داود مسردا

ومن المجاز ليل طما أسطمّه وهو في أسطمّة قريش في وسطهم وعاد الملك في اسطمّه: في أصله، قال:
يا ليتها قد خرجت من فمّه ** حتى يعود الملك في اسطمّه

والعرب سطام الناس.
{الذُّبابُ}: اسم جنس واحده ذبابة يقع على المذكر والمؤنث ويجمع على ذبّان بالكسر كغربان وذبان بالضم كقضبان وعلى أذبّة كأغربة وهو أجهل الحيوانات لأنه يرمي نفسه في المهلكات ومدة عيشه أربعون يوما وأصل خلقته من العفونات ثم يتوالد بعضه من بعض يقع روثه على الشيء الأبيض فيرى أسود وعلى الأسود فيرى أبيض، والذباب مأخوذ من ذب إذا طرد وآب إذا رجع لأنك تذبه فيرجع عليك وقد ذكره امرؤ القيس في شعره قال:
أرانا موضعين لأمر غيب ** ونسحر بالطعام وبالشراب

عصافير وذبّان ودود ** وأجرأ من مجلّحة الذئاب

وسيأتي بحث مسهب عنه في باب البلاغة.

.الإعراب:

{وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطانًا} الواو استئنافية والجملة مستأنفة و{يعبدون} فعل مضارع والواو فاعل و{من دون اللّه} حال و{ما} موصول مفعول به وجملة {لم ينزل} صلة {ما} و{به} حال لأنه كان في الأصل صفة لسلطانا و{سلطانا} مفعول به.
{وما لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ وما لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ} {وما} عطف على {ما} الأولى وجملة {ليس} صلة و{لهم} خبر {ليس} المقدم و{به} متعلقان بعلم و{علم} اسم ليس المؤخر {وما} الواو عاطفة و{ما} نافية و{للظالمين} خبر مقدم و{من} حرف جر زائد و{نصير} مجرور لفظا مرفوع محلا مبتدأ مؤخر. {وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنْكَرَ} الواو عاطفة و{إذا} ظرف مستقبل متضمن معنى الشرط وجملة {تتلى} في محل جر بإضافة {إذا} إليها و{تتلى} فعل مضارع مبني للمجهول و{عليهم} متعلقان بتتلى و{آياتنا} نائب فاعل و{بينات} حال وجملة {تعرف} لا محل لها لأنها جواب {إذا} و{في وجوه} متعلقان بتعرف و{الذين} مضاف إليه وجملة {كفروا} صلة و{المنكر} مفعول به وفيه وضع الظاهر موضع المضمر وهو {الذين كفروا} تشنيعا عليهم وتسجيلا للشهادة عليهم بالكفر.
{يَكادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آياتِنا} جملة {يكادون} حال من الموصول وان كان مضافا لأن المضاف جزؤه ويجوز أن يكون حالا من {وجوه} لأن المراد بها أصحابها و{يكادون} من أفعال المقاربة، والواو اسمها وجملة {يسطون} خبرها و{بالذين} متعلقان بيسطون وجملة {يتلون} صلة و{عليهم} متعلقان بيتلون و{آياتنا} مفعول به.
{قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذلِكُمُ النَّارُ} {قل} فعل أمر والفاعل مستتر تقديره أنت والجملة مستأنفة، {أفأنبئكم} الهمزة للاستفهام والفاء عاطفة على محذوف أي أخاطبكم فأنبئكم وأنبئكم فعل مضارع وفاعل مستتر ومفعول به و{بشر} متعلقان بأنبئكم و{من ذلكم} متعلقان بشر و{النار} خبر لمبتدأ محذوف، أو {النار} مبتدأ وخبره جملة {وعدها} والجملة لا محل لها لأنها مفسرة لشر.
{وَعَدَهَا اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} جملة {وعدها اللّه} إما خبر ثان واما خبر {النار} و{وعدها اللّه} فعل ومفعول به أول وفاعل و{الذين كفروا} مفعول به ثان لوعدها ويجوز أن يكون الضمير هو المفعول الثاني و{الذين كفروا} هو المفعول الأول ولعل هذا أرجح لسر سيأتي في باب الفوائد و{بئس المصير} فعل وفاعل والمخصوص بالذم محذوف أي هي.
{يا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ} كلام مستأنف مسوق لضرب المثل وهو إن يكن أشبه بالقصة إلا انه في سيرورته واستغرابه سمي مثلا، {يا أيها الناس} تقدم إعرابها كثيرا و{ضرب مثل} فعل ماض مبني للمجهول ونائب فاعل، {فاستمعوا} الفاء الفصيحة واستمعوا فعل أمر مبني على حذف النون والواو فاعل و{له} متعلقان باستمعوا.
{إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ} الجملة مفسرة للمثل وان واسمها وجملة {تدعون} صلة و{من دون اللّه} حال وجملة {لن يخلقوا ذبابا} خبر ان و{ذبابا} مفعول به ولو الواو عاطفة على محذوف هو حال أي انتفى خلقهم الذباب على كل حال ولو في هذه الحال التي اجتمعوا لها ولو شرطية و{اجتمعوا} فعل وفاعل و{له} متعلقان باجتمعوا.
{وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبابُ شَيْئًا لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ} الواو عاطفة و{ان} شرطية و{يسلبهم} فعل الشرط والهاء مفعول به و{الذباب} فاعل و{شيئا} مفعول به ثان و{لا} نافية و{يستنقذوه} جواب الشرط والواو فاعل والهاء مفعول به و{منه} متعلقان بيستنقذوه وجملة {ضعف الطالب والمطلوب} حال.
{وما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} الواو استئنافية مسوقة للرد على أحبار اليهود ورؤسائهم الذين قالوا ان اللّه فقير ونحن أغنياء و{ما} نافية و{قدروا} فعل وفاعل ولفظ الجلالة مفعول به و{حق قدره} مفعول مطلق وجملة {ان اللّه} تعليل لما تقدم وان واسمها واللام المزحلقة وقوي خبر إن الأول و{عزيز} خبر إن الثاني.

.البلاغة:

سلامة الاختراع:
وهو أن يخترع الشاعر أو الكاتب معنى لم يسبق إليه ولم يتبع فيه فقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبابًا} الآية من أبلغ ما أنزله اللّه في تجهيل الكافرين واستركاك عقولهم لغرابة التمثيل الذي تضمن الافراط في المبالغة مع كونها جارية على الحق خارجة مخرج الصدق وذلك حين اقتصر سبحانه على ذكر أضعف المخلوقات وأقلها سلبا لما تسلبه وتعجيز كل من دونه سبحانه كائنا من كان عن خلق مثله مع التضافر والاجتماع ثم نزل في التمثيل عن رتبة الخلق إذ هما مما يعجز عن مثلهما كل قادر غير اللّه عز وجل إلى استنقاذ النزر التفه الذي يسلبه هذا الخلق الضعيف على ضعفه ويعجز كل قادر من المخلوقين عن استنقاذه منه فتنقل في النزول في التمثيل على ما تقتضيه البلاغة على الترتيب في هذا المكان، لما علم سبحانه انه لا مبالغة في تعجيزهم عن الخلق والاختراع الذي لا يدعيه جبار ولا يتعاطاه من المخلوقين أحد وإن أوتي قدرة وأعطي قوة وكان فيه من التغالي بالكفر والجهل ما يدعي معه الالهية وينتحل الربوبية، فنزل بهم إلى استنقاذ ما يسلبه هذا المخلوق الضعيف على ضعفه وقوتهم ليريهم عجزهم فتستيقنه نفوسهم وإن لم تقرّ به ألسنتهم فجاء بما يقضي الظاهر أنه أيسر من الخلق وهو الحقيقة مثله في العمر فإن الظفر بنفس هذا المخلوق أيسر من الظفر بما يسلبه فاستنقاذ ما يسلبه في العجز عنه مثل خلقه ولم يسمع مثل هذا التمثيل في بابه لأحد قبل نزول الكتاب العزيز.
هذا وقد قسم علماء البيان سلامة الاختراع إلى ضربين:
أولهما: يبتدعه صاحبه من غير أن يقتدي فيه بمن سبقه وهذا الضرب يعثر عليه عند الحوادث المتجددة، وينتبه له عند الأمور الطارئة فمن ذلك ما ورد في شعر لأبي تمام في قصيدة له يمدح بها المعتصم باللّه ويذكر حرق الافشين ومطلعها:
الحق أبلج والسيوف عوار ** فحذار من أسد العرين حذار

وفيها يخترع وصف المصلبين فيقول:
بكروا وأسروا في متون ضوامر ** قيدت لهم من مربط النّجّار

لا يبرحون ومن رآهم خالهم ** أبدا على سفر من الأسفار

وهذا المعنى مما يعثر عليه عند الحوادث المتجددة، والخاطر في مثل هذا المقام ينساق إلى المعنى المخترع من غير كبير كلفة لشاهد الحال الحاضرة، ومما قاله فيها في صفة من أحرق بالنار:
ما زال سر الكفر بين ضلوعه ** حتى اصطلى سرّ الزناد الواري

نارا يساور جسمه من حرها ** لهب كما عصفرت شقّ إزار

طارت لها شعل يهدّم لفحها ** أركانه هدما بغير غبار

فصّلن منه كلّ مجمع مفصل ** وفعلن فاقرة بكل فقار

مشبوبة رفعت لأعظم مشرك ** ما كان يرفع ضوءها للساري

صلى لها حيا وكان وقودها ** ميتا ويدخلها مع الفجار

وقد ذيل البحترى على ما ذكره أبو تمام في وصف المصلبين فقال:
كم عزيز أباده فغدا ير ** كب عودا مركّبا في عود

أسلمته إلى الرقاد رجال ** لم يكونوا عن وترهم برقود

تحسد الطير فيه ضبع البوادي ** وهو في غير حالة المحسود

غاب عن صحبه فلا هو موجو ** د لديهم وليس بالمفقود

وكأن امتداد كفيه فوق الجذع ** في محفل الردى المشهود

طائر مدّ مستريحا جناحيه ** استراحات متعب مكدود

أخطب الناس راكبا فإذا أر ** جل خاطبت منه عين البليد

ومن هذا الضرب ما جاء في شعر أبي الطيب المتنبي في وصفه الحمى:
وزائرتي كأن بها حياء ** فليس تزور إلا في الظلام

بذلت لها المطارف والحشايا ** فعافتها وباتت في عظامي

كأن الصبح يطردها فتجري ** مدامعها بأربعة سجام

أراقب وقتها من غير شوق ** مراقبة المشوق المستهام

ومن بديع ما أتى به في هذا الموضع أن سيف اللّه بن حمدان كان مخيما بأرض ديار بكر على مدينة ميا فارقين، فعصفت الريح بخيمته فتطّير الناس لذلك وقالوا فيه أقوالا فمدحه أبو الطيب بقصيدة يعتذر فيها عن سقوط الخيمة أولها:
أينفع في الخيمة العذّل ** وتشمل من دهرها يشمل

ومما أحسن فيه غاية الإحسان وعدّ من أوابده التي لا تبلى قوله:
تضيق بشخصك أرجاؤها ** ويركض في الواحد الجحفل

وتقصر ما كنت في جوفها ** وتركز فيها القنا الذّبّل

وكيف تقوم على راحة ** كأن البحار لها أنمل

فليت وقارك فرّقته ** وحملت أرضك ما تحمل

فصار الأنام به سادة ** وسدتهم بالذي يفضل

رأت لون نورك في لونها ** كلون الغزالة لا يغسل

وأنّ لها شرفا باذخا ** وأن الخيام بها تخجل

فلا تنكرنّ لها صرعة ** فمن فرح النفس ما يقتل

ولو بلّغ الناس ما بلّغت ** لخانتهم حولك الأرجل

ولما أمرت بتطنيبها ** أشيع بأنك لا ترحل

فما اعتمد اللّه تقويضها ** ولَكِن أشار بما تفعل

وعرّف انك من همه ** وأنك في نصره ترفل

فما العاندون وما أمّلوا ** وما الحاسدون وما قوّلوا

هم يطلبون فمن أدركوا ** وهم يكذبون فمن يقبل

وهم يتمنّون ما يشتهون ** ومن دونه جدّك المقبل

والمعاني المخترعة فيها واضحة للعيان وكفى المتنبي فضلا أن يأتي بمثلها.
وفي كتاب الروضة لأبي العباس المبرد، وهو كتاب جمعه واختار فيه أشعار شعراء بدأ فيه بأبي نواس ثم بمن كان في زمانه فقال مما أورده من شعره: وله معنى لم يسبق إليه بإجماع وهو قوله:
تدار علينا الراح في عسجدية ** حبتها بأنواع التصاوير فارس

قرارتها كسرى وفي جنباتها ** مها تدّريها بالقسيّ الفوارس

فللراح ما زرت عليه جيوبها ** وللماء ما دارت عليه القلانس

فالمعنى مخترع ولَكِنه- كما يقول الجاحظ- من المعاني المشاهدة فإن هذه الخمر لم تحمل إلا ماء يسيرا وكانت تستغرق صور هذه الكأس إلى مكان جيوبها وكان الماء فيها قليلا بقدر القلانس التي على رؤوسها وهذا حكاية حال مشاهدة بالبصر.
وثانيهما: المعاني التي تستخرج من غير شاهد حال متصورة فانها أصعب منالا مما يستخرج بشاهد الحال وقد قيل: إن أبا تمام أكثر الشعراء المتأخرين ابتداعا للمعاني وقد عدت معانيه المبتدعة فوجدت ما يزيد على عشرين معنى. فمن ذلك قوله:
يا أيها الملك النائي برؤيته ** وجوده لمراعي جوده كثب

ليس الحجاب بمقص عنك لي أملا ** إن السماء ترجّى حين تحتجب

وكذلك قوله في الهجاء:
وأنت تدير قطب رحى عليا ** ولم نر للرحى العلياء قطبا

ترى ظفرا بكل صراع قرن ** إذا ما كنت أسفل منه جنبا

وكذلك قوله:
وإذا أراد اللّه نشر فضيلة ** طويت أتاح لها لسان حسود

لولا اشتعال النار فيما جاورت ** ما كان يعرف طيب عرف العود

وكذلك له في الشيب:
شعلة في المفارق استودعتني ** في صميم الفؤاد ثكلا صميما

يستثير الهموم ما اكتنّ منها ** صعدا وهي تستثير الهموما

على أن ابن الرومي فاق شعراء العربية جميعا في خلق الأشكال للمعاني المجردة أو خلق الرموز لبعض الاشكال المحسوسة بل فاق بها شعراء الدنيا جميعا. استمع لوصفه لحركة الرقاق في يد الخباز:
ما أنس لا أنس خبازا مررت به ** يدحو الرقاقة مثل اللمح بالبصر

ما بين رؤيتها في كفه كرة ** وبين رؤيتها قوراء كالقمر

إلا بمقدار ما تنداح دائرة ** في صفحة الماء يرمى فيه بالحجر

ووصفه للحركة البطيئة في سير السحائب:
سحائب قيست في البلاد فألفيت ** غطاء على أغوارها ونجودها

حدتها النّعامى مثقلات فأقبلت ** تهادى رويدا سيرها كركودها

وله:
وإذا امرؤ مدح امرأ لنواله ** وأطال فيه فقد أراد هجاءه

لو لم يقدر فيه بعد المستقى ** عند الورود لما أطال رشاءه

وله قوله الممتع:
عدوك من صديقك مستفاد ** فلا تستكثرنّ من الصحاب

فإن الداء أكثر ما تراه ** يكون من الطعام والشراب

وكذلك قوله:
لما تؤذن الدنيا به من صروفها ** يكون بكاء الطفل ساعة يولد

وإلا فما يبكيه منها وانها ** لأوسع مما كان فيه وأرغد

إذا أبصر الدنيا استهل كأنه ** بما هو لاق من أذاها يهدد

قول جامع للجاحظ:
وللجاحظ فصل ممتع انتهى فيه إلى وصف الذباب الذي نحن بصدد الحديث عنه قال: ولا يعلم في الأرض شاعر تقدم في تشبيه مصيب تام وفي معنى غريب عجيب أو في معنى شريف كريم أو في بديع مخترع إلا وكل من جاء من الشعراء من بعده أو معه إن هو لم يقدر على لفظه فيسرق بعضه أو يدعيه بأسره فإنه لا يدع أن يستعين بالمعنى ويجعل نفسه شريكا فيه كالمعنى الذي تتنازعه الشعراء فتختلف ألفاظهم وأعاريض أشعارهم ولا يكون أحد منهم أحق بذلك المعنى من صاحبه، أو لعله يجحد أنه سمع بذلك المعنى قط وقال انه خطر على بالي من غير سماع كما خطر على بال الأول هذا إذا قرعوه به إلا ما كان من عنترة في صفة الذباب فإنه وصفه فأجاد وصفه فتحامى معناه جميع الشعراء فلم يعرضوا له قال عنترة:
جادت عليها كلّ عين ثرّة ** فتركن كل حديقة كالدرهم

فترى الذباب بها يغني وحده ** هزجا كفعل الشارب المترنّم

غردا يحكّ ذراعه بذراعه فعل ** المكبّ على الزناد الأجذم

يريد فعل الأقطع المكب على الزناد، والأجذم المقطوع اليدين فوصف الذباب إذا كان واقعا ثم حك إحدى يديه بالأخرى فشبهه عند ذلك برجل مقطوع اليدين يقدح بعودين ومتى سقط الذباب فهو يفعل ذلك.
قصة قاضي البصرة:
وبعد أن تحدث الجاحظ طويلا كعادته في الاستطراد عن الذباب روى قصة قاضي البصرة وهي طويلة تصور إلحاح الذباب وقدرته على العض وهي مثبتة في كتاب الحيوان للجاحظ فليرجع إليه من شاء.

.الفوائد:

متى اجتمع بعد ما يتعدى إلى اثنين شيئان ليس ثانيهما عبارة عن الأول فالفاعل المعنوي رتبته التقديم وهو المفعول الأول ويعني بالمفعول الأول من يتأتى منه فعل فإذا قلت: وعدت زيدا دينارا فالدينار هو المفعول الثاني لأنه لا يتأتى من فعل وهو نظير أعطيت زيدا درهما فزيد هو الفاعل لأنه آخذ للدرهم.